العقاد يرد الشُبهات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
صفحة 1 من اصل 1
العقاد يرد الشُبهات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بسم الله الرحمن الرحيم
في هذا الموضوع سأنقل ما جاء في كتاب " عبقرية محمد " للكتاب محمود عباس العقاد -رحمه الله -
وسوف أكتفي بنقل ردوده على الشُبهات التي رُوجت من قبل رجال الكنيسة حول النبي صلى الله عليه وسلم
وهي نفس الشبهات التي تروج حاليا في الإعلام والمتأثرين بالثقافة الغربية ..
فهذه الشبهات خرجت من عقـول الكهان قبل أن يتلقفها الملحدون والمرجفون
مثل شبهة تعدد الزوجات
وشبهة الزواج من عائشة
وغيرهما من الشبه
.
.
وكما قلت سابقا لو لم يألف العقاد سوى هذا الكتاب في حياته
لرجى به أن يغفر الله له يوم القيامة
ومعلوم أن العقاد هو أديب وشاعر وليس بفقيه أو داعية إسلامي
ومع ذلك له غيره إسلامية محمودة وقلم هادئ
وعقل متزن واطلاع واسع جدا جعلته يُشفي في رد الشبهات والمزاعم الساقطة التي روجها الغرب حول الإسلام
رد: العقاد يرد الشُبهات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
شُبهة تعدد الزوجات :
هنا يعرض لنا الكلام عن تعدد زوجات النبي، وهو الهدف الثاني الذي يرميه المشهرون بالإسلام، فيكثرون من رميه كلما تكلموا عن أخلاق محمد عليه السلام وذكروا منها ما يزعمونه منافيًا لشمائل النبوة، مخالفًا لما ينبغي أن يتصف به هداة الأرواح …
السيف والمرأة! …
كأنهم يريدون أن يجمعوا على النبي بين الاستسلام للغضب والاستسلام للهوى، وكلاهما بعيد من صفات الأنبياء.
أما السيف فقد أسلفنا الكلام فيه.
أما المرأة فالظنة فيها أضعف من الظنة في السيف على ما نراه، لأن الاستسلام للشهوة آخر شيء يخطر على بال الرجل المحقق — مسلمًا كان أو غير مسلم — حين يبحث في تعدد زوجات النبي، وفيما يدل عليه ذلك التعدد، وفيما اقتضاه.
قال لنا بعض المستشرقين إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية …
قلنا إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية Undersexed لأنه لم يتزوج قط، فلا ينبغي أن تصف محمدًا بأنه مفرط الجنسية Oversexed لأنه جمع بين تسع نساء.
ونحن قبل كل شيء لا نرى ضيرًا على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها. هذا سواء الفطرة لا عيب فيه، وما من فطرة هي أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى، فهي الغريزة التي تلهم الحي في كل طبقة من طبقات الحياة ما لا تلهمه غريزة أخرى. أرأيت إلى السمك وهو يعبر الماء الملح في موسمه المعلوم فيطوي ألوفًا من الفراسخ ليصل إلى فرجة نهر عذب يجدد فيها نسله ثم يعود أدراجه؟ … أرأيت إلى العصفور وهو يبتني عشه ويعود من هجرته إلى وطنه؟ أرأيت إلى الزهر وهو يتفتح ليغري الطير والنحل بنقل لقاحه؟ أرأيت إلى سنة الحياة في كل طبقة من طبقات الأحياء؟ ما هي سنَّتُها إن لم تكن هي سنة الألفة بين الجنسين؟ وأين يكون سواء الفطرة إن لم يكن على هذا السواء؟
فحب المرأة لا معابة فيه …
هذا هو سواء الفطرة لا مراء …
وإنما المعابة أن يطغى هذا الحب حتى يخرج عن سوائه، وحتى يشغل المرء عن غرضه، وحتى يكلفه شططًا في طلابه، فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع …
فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير أو عن عمل صغير؟
مَنْ مِنْ بناة التاريخ قد بنى في حياته وبعد مماته تاريخًا أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية والدول الإسلامية؟
ومن ذا الذي يقول إن هذا عمل رجل مشغول؟
عم شغلته المرأة؟ ومن ذا تفرغ لعظيم من المسعى فبلغ فيه شأو محمد في مسعاه؟
فإن كانت عظمة الرجل قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقها ويعطي المرأة حقها فالعظمة رجحان وليست بنقص، وهذا الاستيفاء السليم كمال وليس بعيب. ورسالة محمد إذن هي الرسالة التي يتلقاها أناس خلقوا للحياة، ولم يخلقوا نابذين لها ولا منبوذين منها. فليست شريعة هؤلاء بالشريعة المطلوبة فيما يخاطب به عامة الناس في عامة العصور.
وأعجب شيء أن يقال عن النبي إنه استسلم للذات الحس؛ وقد أوشك أن يطلق نساءه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها.
فقد شَكَوْن — على فخرهن بالانتماء إليه — أنهن لا يجدن نصيبهن من النفقة والزينة، واجتمعت كلمتهن على الشكوى، واشتددن فيها حتى وجم النبي وهم بتسريحهن، أو تخييرهن بين الصبر على معيشتهن والتسريح.
وذهب إليه أبو بكر يومًا «يستأذن عليه فوجد الناس جلوسًا لا يؤذن لأحد منهم ثم دخل أبو بكر وعمر من بعده، فوجدا النبي جالسًا وحوله نساؤه واجمًا ساكنًا. فأراد أبو بكر أن يقول شيئًا يسري عنه، فقال: «يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة! سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها» فضحك رسول الله وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة! … فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، ويقولان: «تسألن رسول الله ما ليس عنده؟»
فقلن: «والله لا نسأل رسول الله شيئًا أبدًا ليس عنده» ثم اعتزلهن الرسول شهرًا أو تسعة وعشرين يومًا، فنزلت بعدها الآية التي فيها التخيير وهي:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (الأحزاب: ٢٨، ٢٩).
فبدأ الرسول بعائشة فقال لها: «يا عائشة! … إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحب ألا تتعجلي فيه حتى تستشيري أبويك …»
قالت: «وما هو يا رسول الله؟» فتلا عليها الآية …
قالت: «أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ … بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة …» ثم خير نساءه كله فأجبن كما أجابت عائشة، وقنعن بما هن فيه من معيشة كان كثير من زوجات المسلمين يظفرن بما هو أنعم منها.
علام يدل هذا؟
نساء محمد يشكون قلة النفقة والزينة، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات.
أهذا فعل رجل يستسلم للذَّات حسِّه؟
أما كان يسيرًا عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال والغنائم ما يرضيهن ولا يغضب المسلمين، وهم موقنون أن إرادة الرسول من إرادة الله؟ …
وماذا كلفه الاحتفاظ بالنساء حتى يقال إنه كان يفرط في ميله إلى النساء؟
هل كلفه أن يخالف ما يحمد من سننه أو يخالف ما يحمد من سيرته أو يترخص فيما يرضاه أتباعه ولا ينكرونه عليه؟
لم يكلفه شيئًا من ذلك، ولم يشغله عن جليل أعماله وصغيرها، ولم نر هنا رجلًا تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون، بل رأينا رجلًا يغلب تلك الملذات في طعامه ومعيشته وفي ميله إلى نسائه، فيحفظها بما يملك منها ولا يأذن لها أن تسومه ضريبة مفروضة عليه، ولو كانت هذه الضريبة بسطة في العيش قد ينالها أصغر المسلمين، ولا شك في قدرة النبي عليها لو أراد.
رجل الجد والرصانة
وهكذا نبحث عن الرجل الذي توهمه المشهرون من مؤرخي أوروبا فلا نرى إلا صورة من أعجب الصور التي تقع في وهم واهم.
نرى رجلًا كان يستطيع أن يعيش كما يعيش الملوك ويقنع مع هذا بمعيشة الفقراء، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه!
ونرى رجلًا تألَّبَت عليه نساؤه لأنه لا يعطيهن الزينة التي يتحلَّين بها لعينه، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه! …
ونرى رجلًا آثر معيشة الكفاف والقناعة على إرضاء نسائه بالتوسعة التي كانت في وسعه، ثم يقال إنه رجل غلبته لذات حسه! …
ذلك كلام لو شاء المشهرون أن يرسلوه كلامًا مضحكًا مستغربًا لأفلحوا فيما قالوه أحسن فلاح. أو لعله أقبح فلاح! …
ويزيد في غرابته أن الرجل الذي توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولًا قبل زواجه ولا بعد زواجه فتخبط فيه الظنون ذلك الخبط الذريع.
فمحمد كان معروفًا بين الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة.
كان معروفًا من صباه إلى كهولته فلم يعرف عنه أنه استسلم للذات الحس في ريعان صباه، ولم يسمع عنه أنه لها كما يلهو الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح، بل عرف بالطهر والأمانة واشتهر بالجد والرصانة، وقام بالدعوة بعدها فلم يقل أحد من شانئيه والناعين عليه والمنقبين وراءه عن أهون الهنات: تعالوا يا قوم فانظروا هذا الفتى الذي كان من شأنه مع النساء كيت وكيت يدعوكم اليوم إلى الطهارة والعفة ونبذ الشهوات … كلا … لم يقل أحد هذا قط من شانئيه وهم عديد لا يحصى ولو كان لقوله موضع لجرى على لسان ألف قائل.
ولمَّا بنى بأولى زوجاته — خديجة — لم تكن لذَّات الحس هي التي سيطرت على هذا الزواج؛ لأنه بنى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين، ونيف على الخمسين، وأوتي الفتح المبين وليس له من زوجة غيرها، ولا من رغبة في الزواج بأخرى.
ولم يكن وفاؤه لها بقية حياته وفاء للذات حس أو ذكرى متاع جميل لأنه فضلها على عائشة في صباها وهي أحب نسائه إليه، وكانت عائشة تغار منها في قبرها فلم يكتمها قط أنه يفضلها عليها.
قالت له مرة: هل كانت إلا عجوزًا بدلك الله خيرًا منها، فقال له مغضبًا: «لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها … آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء»
فلهذا أحب خديجة، ووفى لها وفضلها ولم يمح ذكراها من نفسه قط من أعقبتها من الزوجات الفتيات وفاء قلب، وليست لذات حس ولا ذكرى متاع جميل.
أسباب تعدد زوجاته
ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه الملذات أن يجمع النبي إليه تسعًا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة العربية، فيسرعن إليه راضيات فخورات، وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تعلوها مصاهرة.
لكنه لم يتزوج بكرًا قط غير عائشة — رضي الله عنها — ولم يكن زواجه بها مقصودًا في بداية الأمر حتى رغبته فيه خولة بنت حكيم التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة.
قالت عائشة — رضي الله عنها: «لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي: «أي رسول الله! ألا تتزوج؟»
قال: «من؟»
قالت: «إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا؟» …
قال: «فمن البكر؟» …
قالت: «بنت أحب الناس إليك عائشة بنت أبي بكر» …
قال: «فمن الثيب؟» …
قالت: «سودة بنت زمعة؛ آمنت بك واتبعتك».»
ثم كانت سودة هي أولى النساء التي بنى بهن بعد وفاة خديجة، وكان زوجها الأول — ابن عمها — قد توفي بعد رجوعه من الهجرة إلى الحبشة، وكانت هي من أسبق النساء إلى الإسلام، فآمنت وهجرت أهلها ونجا بها زوجها إلى الحبشة فرارًا من إعنات المشركين له ولها، فلما مات لم يبق لها إلا أن تعود إلى أهلها فتصبأ وتؤذى، أو تتزوج بغير كفؤ أو بكفؤ لا يريدها. فضمها النبي إليه حماية لها وتأليفًا لأعدائه من آلِهَا وكان غير هذا الزواج أولى به لو نظر إلى لذَّات حس ومال إلى متاع.
وكانت للنبي زوجة أخرى وسمت بالوضاءة والفتاء، وهي زينب بنت جحش ابنة عمته عليه السلام التي زوجها زيد بن حارثة بأمره وعلى غير رضا منها، لأنها أنفت — وهي ما هي في الحسب والقرابة من رسول الله — أن يتزوجها غلام عتيق.
هذه أيضًا لم يكن «لِلذَّات الحس» المزعومة سلطانٌ في بِناء النبي بها بعد تطليق زيد إياها وتعذر التوفيق بينهما، ولو كان للذات الحس سلطان في هذا الزواج لكان أيسر شيء على النبي أن يتزوجها ابتداء ولا يروضها على قبول زيد وهي تأباه، فقد كانت ابنة عمته يراها من طفولته ولا يفاجئه من حسنها شيء كان يجهله يوم عرض عليها زيدًا، وشدد عليها في قبوله. فلما تجافى الزوجان وتكررت شكوى زيد من إعراضها عنه وترفعها عليه وإغلاظها القول له كان زواج النبي بها «حلًّا لمشكلة» بيتية بين ربيب في منزلة الابن وابنة عمة أطاعته في زواج لم يقرن بالتوفيق.
أما سائر زوجاته عليه السلام فما من واحدة منهن — رضي الله عنهن — إلا كان لزواجه بها سبب من المصلحة العامة أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر به المرجفون من لذات الحس المزعومة.
فأم سلمة كانت كهلة مسنة يوم خطبها، كما قالت له معتذرة إليه؛ لإعفائه من تكليف نفسه أن يتزوجها جبرًا لخاطرها بعد موت زوجها عبد الله المخزومي من جرح أصابه في غزوة أحد، ولما برح بها الحزن لوفاته واساها رسول الله قائلًا: «سلي الله أن يُؤْجرك في مصيبتك وأن يخلفك خيرًا» …
فقالت: «ومن يكون خيرًا من أبي سلمة؟» فأوجب على نفسه خطبتها لأنها تعلم أنه خير من أبي سلمة، ولأنه يعلم أن أبا بكر وعمر خطباها فترفقت في الاعتذار، وهما أعظم المسلمين قدرًا بعد النبي عليه السلام.
وجويرية بنت الحارث سيِّدِ قومه كانت إحدى السبايا في غزوة بني المصطلق فتزوجها النبي؛ ليعتقها ويحض المسلمين على عتق أسراهم وسباياهم تفريجًا عنهم وتألفًا لقلوبهم، فأسلموا جميعًا وحسن إسلامهم، وخيرها أبوها بين العودة إليه والبقاء في حرم رسول الله فاختارت البقاء في حرم رسول الله.
وحفصة بنت عمر بن الخطاب مات زوجها فعرضها أبوها على أبي بكر فسكت، وعلى عثمان فسكت، وبث عمر أسفه للنبي فلم يكن للنبي عليه السلام أن يضن على وليه وصديقه بالمصاهرة التي شرف بها أبا بكر من قبله، وقال: يتزوج حفصة من هو خير من أبي بكر وعثمان.
ورملة بنت أبي سفيان تركت أباها لتسلم، وتركت وطنها لتهاجر مع زوجها إلى الحبشة، ثم تنصر زوجها وفارقها وهي غريبة هناك بغير عائل، فأرسل النبي إلى النجاشي في طلبها لينقذها من ضياع الغربة وضياع الأهل وضياع القرين. فكانت النجدة الإنسانية باعث هذا الزواج ولم يكن له باعث من المتعة والاستزادة من النساء، وكان للنبي مقصد جليل من وراء هذا الزواج الذي لم يفكر فيه حتى ألجأته النجدة إلى التفكير فيه، وهو أن يصل بينه وبين أبي سفيان بآصرة النسب، عسى أن يهديه ذلك إلى الدين، بما يعطف من قلبه ويرضي من كبريائه.
وكان إعزازُ من ذلوا بعد عزة سنَّةَ النبي عليه السلام في معاملة جميع الناس ولا سيما الناس اللاتي تنكسر قلوبهن في الذل بعد فقد الحماة والأقرباء، ولهذا خيَّر صفية الإسرائيلية سيدة بني قريظة بين أن يلحقها بأهلها وأن يعتقها ويتزوج بها، فاختارت الزواج منه عليه السلام، وآية الآيات في رعاية الشعور الإنساني أنه عليه السلام أنب صفيَّهُ بلالًا لأنه مر بها وبابنة عمها على قتلى اليهود. فقال له مغضبًا: «أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟» واحتقرتها زينب فلقبتها يومًا باليهودية، فهجرها شهرًا لا يكلمها ليأخذ بناصر هذه الغريبة ويدفع عنها الضيم.
•••
تنكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه السلام عن هذه الأسباب وشبيهاتها من دواعي اختياره لنسائه واستجماعه لهذا العدد من الزوجات في حين واحد …
ولا حرج — كما أسلفنا — على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه.
ولكن الذي حدث فعلًا أن المتعة لم تكن قط مقدمة في الاعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته قبل الدعوة أو بعدها، وفي إبان الشباب أو بعد تجاوز الكهولة.
وآخر صورة يتصورها المنصف هنا هي صورة رجل فرغ للذاته، وجلس ينتقي واحدة بعد واحدة من الحسان على حسب ما يرجوه عندها من متاع. فإنما كان الاختيار كله على حسب حاجتهن إلى الإيواء الشريف أو على حسب المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه وبين سادات العرب وأساطين الجزيرة من أصدقائه وأعدائه، ولا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة بين جميع زوجاته حتى التي بنى بها فتاة بكرًا موسومة بالجمال، وهي السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه …
إلا أن المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق هذه الحياة الزوجية التي سجلت لنا بأدق تفصيلاتها، ولم يذكروا إلا شيئًا واحدًا حرَّفوه عن معناه ودلالته، ليفتروا على النبي ما طاب لهم أن يفتروه، وذلك أنه جمع في وقت واحد بين تسع زوجات.
نسوا أنه اتسم بالطهر والعفة في شبابه فلم يستبح قط لنفسه ما كان شباب الجاهلية يستبيحونه لأنفسهم من اللهو المطروق لكل طارق، في غير مشقة عندهم ولا معابة.
ونسوا أنه بقي إلى نحو الخامسة والعشرين لم يتعسف في طلب الزواج الحلال وهو ميسر له تيسره لكل فتى وسيم حسيب منظور إليه بين الأسر وبين الفتيات.
ونسوا أنه لما تزوج في تلك السن كان زواجه بسيدة في الأربعين اكتفى بها إلى أن توفيت وهو يجاوز الخمسين.
ونسوا أنه اختار أحسابًا في حاجة إلى التآلف أو الرعاية ولم يختر جمالًا مطلوبًا للمتاع …
ونسوا أن الرجل الذي وصفوه بما وصفوا من تغليب لذات الحس لم يكن يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير، ولم يجاوز حياة القناعة قط لإرضاء نسائه وإرضاء نفسه، ولو شاء لما كلفه إرضاء نفسه وإرضاؤهن غير القليل بالقياس إلى ما في يديه.
نسوا كل هذا، وهو ثابت في التاريخ ثبوت عدد النساء اللاتي جمع بينهن عليه السلام … فلماذا نسوه؟
نسوه لأنهم أرادوا أن يعيبوا وأن يتقولوا وأن ينحرفوا عن الحقيقة، وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من الإغضاء عنها، لو أنهم أرادوها وتعمدوا ذكرها ولم يتعمدوا نسيانها.
رد: العقاد يرد الشُبهات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
الوجهة الخلقية
ونستطرد إلى تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية فلا نطيل فيه، لأننا نقصر هذا الكتاب على عبقرية محمد وما له اتصال بجوانب هذه العبقرية في تعدد مناحيها، ولم نرد به أن نتناول حكمة الشريعة الإسلامية في تفصيلها ولا مسوغات الأصول الدينية على اختلافها.
فأوجز ما نقوله في تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية أن النبي عليه السلام لم يجعله حسنة مطلوبة لذاتها أو مباحًا يختاره من يختاره وله مندوحة عنه، وإنما جعله ضرورة يعترف بها الرجل وتعترف بها الأمة في بعض الأحوال لأنها خير من ضرورات، ولن ينكر هذا إلا متعنت يصدم الحقائق ويتجاهل المحسوس الماثل للعيان.
ففي حياة محمد الخاصة لا ينكر أحد أن بناءه بنسائه قد كان خيرًا من الإخلاء بينهن وبين التأيُّم والمذلة والرجعة إلى الكفر والضلالة، وكان خيرًا من قطع تلك الآصرة التي وصلت بينه وبين البيوت والعشائر، فكان لها ما كان من فضل في نفع الدين والمتدينين به، وهي ضرورة يلجأ إلى الاعتراف بها كل مسئول عن شئون أمة بل أمم تمارس الحياة الدنيا، وكل إمام عليم بطبائع الناس.
أما الضرورة الاجتماعية العامة فقد اعترفت بها الشرائع المدنية الحديثة جميعًا ثم تحللت منها بإباحة الزنى وعلاج مشكلة الزواج بحل خارج عن نطاق الزواج أو خارج عن نطاق البيت والأسرة. ولو اهتدت هذه الشرائع المدنية إلى حل خير من هذا لجاز لها أن تنكر تعدد الزوجات، وتنكر أنه ضرورة أكرم من ضرورات.
فلا شك أن الجمع بين المرأة العقيم أو المرأة المريضة وبين غيرها أكرم لها وللمجتمع من نبذها في معترك هذه الدنيا الضروس بغير ولد وبغير زوج وبغير عاصم، ثم هو أكرم للزوج نفسه وهو كائن حي يريد أن يصل ما بينه وبين الحياة بذرية صالحة هي الغرض الأكبر من كل زواج، ولولاها لانتقض في المجتمع الإنساني أساس كل زواج.
ولا شك أن الجمع بين المرأة المزهود فيها وبين زوجة أخرى أكرم لها وأصلح من الجمع بينها وبين خليلة أو عدة خليلات.
ولا شك أن تسهيل الزواج وبخاصة في أوقات الحروب التي ينقص فيها الرجال أكرم للمجتمع الإنساني وأصلح من تسهيل العلاقات الأخرى التي لا تنفع النوع ولا تنفع الأخلاق، ولا ترفع مكانة المرأة في عصمة رجل أو في متناول كثير من الرجال.
هذا شيء جائز.
بل هذا شيء أكثر من جائز، لأنه واقع لا محيد عنه ولا حيلة فيه، وغير ملوم من يواجهه بحل أكرم من حلول شتى، بل اللوم عليه أن ينظر في شئون العالم ثم يغمض عينيه عن حقائقه التي تصدم كل عين.
ومن السهل — على من أراد — أن يسوس العالم في خياله بالفضائل التي تروقه وترضيه … وليس من السهل عليه أن يخلق العالم الذي يساس له ويرضى بما ارتضاه وقد علم هذا كل رجل واجهته مشكلة واحدة من المشكلات التي واجهت محمدًا بادئ الرأي على غير مثال سابق يحتذيه، إلا ما ألهمه الله.
رد: العقاد يرد الشُبهات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
رأي نابليون
ماذا صنع نابليون في عصرنا الحديث؟ …
وإنما نضرب المثل بنابليون لأنه حضر انقلابًا في الأطوار والعادات يشبه نشأة الدين في أيام الدعوة المحمدية ونعني به الثورة الفرنسية، وحضر انحدارًا في الأخلاق والآداب يشبه الانحدار الذي أصيب به العرب في أواخر عهد الجاهلية، وأسس دولة، ونظر في سن قانون، وحاول ضروبًا من الإصلاح.
نابليون قد طلق امرأته وأكره أحبار المسيحية على قبول هذا الطلاق، وقد اشتهرت له علاقات بخليلات متعددات، غير الخليلات المجهولات …
ونابليون يقول عن المرأة: «لقد صنعت كل ما وسعني أن أصنع لتحسين حال أولئك المساكين الأبرياء أبناء الزنى. إلا أنك لا تستطيع أن تصنع لهم الشيء الكثير دون مساس بقواعد الزواج. وإلا أحجم الناس عن الزواج إلا القليل.
ولقد كان للرجل في العهد القديم سريات إلى جانب الزوجات، ولم يكن أبناء الزنى محتقرين بين الناس احتقارهم اليوم. إنه لمن المضحك أن يحظر على الرجل الزواج بأكثر من واحدة فتحمل هذه الزوجة الواحدة، وكأن الرجل في أثناء حملها أعزب أو عقيم.
واليوم لا سريات للرجال ولكنهم يعاشرون الخليلات وهن أقدر على التبديد والإفساد.
إنهم في فرنسا يخولون النساء فوق حقهن من التعظيم وإنما الواجب ألا ينظر إليهن كأنهن مساويات للرجال، فما هن في الحقيقة إلا آلات لتخريج الأطفال.
وقد تمردن في إبان الثورة وعقدن الجماعات لأنفسهن، وبدا لهن أن يؤلفن فرقًا منهن في الجيش.
وكان لا بد من صدِّهن، لأن المجتمع الإنساني عرضة للخلل والفوضى إذا ترك النساء حالة الاعتماد على الرجال وهي مكانهن الحق في الحياة. نعم إن المجتمع لوشيك إذن أن يتمزق بددًا بغير انتهاء.
وعلى جنس من الجنسين أن يخضع للآخر لا محالة، فإذا نشبت الحرب بينهما، فلن تكون كحرب الأغنياء والفقراء أو حرب البيض والسود! …
ألا وإن الطلاق لأضر بالمرأة دون مراء. فالرجل الذي يجمع بين زوجات لا يبدو عليه من ذلك أثر كالأثر الذي يبدو على المرأة بعد التزوج بعدة رجال، إنها تضمحل إذن كل الاضمحلال.»
مواضيع مماثلة
» حكم اختصار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
» رقية رضي الله عنها وأرضاها، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
» من كلام النبي صلي الله علية وسلم
» خمسون معلومة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
» وصف الرسول صلى الله عليه وسلم
» رقية رضي الله عنها وأرضاها، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
» من كلام النبي صلي الله علية وسلم
» خمسون معلومة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
» وصف الرسول صلى الله عليه وسلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى