شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في هذا الموضوع سنتعرف على شرح الأحاديث المسماة بالأربعين النووية الذي ألفه للإمام محمد بن علي بن وهب القشيري
المعروف ب (ابن دقيق العيد).
والتي جمعها الأمام النووي رحمه الله تعالى
عدد هذه الأحاديث هو اثنان وأربعين حديثا وسميت بالأربعين تجوزا ، .
تكاد الأربعون النووية تجمع علم الدين كله، لذلك كان تعلمها من الضرورة بمكان، لأن في فهمها فهم أصول الشريعة كلها وقواعد الدين .
نبدأ على بركة الله مع الحديث الأول
عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ : " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوُله ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا ، أَو امْرأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ "
شرح الحديث
هذا الحديث صحيح ، متفق على صحته،وعظيم موقعه وجلالته وكثرة فوائده، رواه الإمام البخاري في أكثر من موضع، ورواه الامام مسلم في آخر باب الجهاد.
وهو أحد الاحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال الإمام أحمد و الشافعي رحمهما الله يدخل في حديث النيات ثلث العلم، قاله البيهقي وغيره، وسبب ذلك أن العبد يكسب بقلبه ولساه وجوارحه والنية أحد الأقسام الثلاثة.
وروي عن الشافعي رضي الله عنه يدخل هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه، وقال جماعة من العلماء : هذا الحديث ثلث الإسلام.
واستحب العلماء أن تفتتح المصنفات به، وممن افتتح كتابه به الإمام أبو عبدالله البخاري، وقال عبد الرحمن بن مهدي : ينبغي لكل من صنف كتابا ، أن يبتدئ فيه بهذا الحديث تنبيها للطالب على تصحيح النية.
وهذا الحديث غريب بالنسبة إلى أوله مشهور بالنسبة إلى آخره لأنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا علقمة بن أبي وقاص ، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي ، ولم يروه عن محمد إلا يحيى بن إبراهيم الأنصاري، ثم اشتهر بعد ذلك فرواه أمثر من مائتين أكثرهم أئمة.
ولفظه (إنما) للحصر: تثبت المذكور وتنفي ما عداه، وهي تارة تقتضي الحصر المطلق ، وتارة تقتضي حصرا مخصوصا ، ويفهم ذلك بالقرائن؛ كقوله تعالى (إنما أنت منذر) فظاهره الحصر بالنذارة والرسول لا ينحصر في ذلك، بل له أوصاف كثيرة جميلة كالبشارة وغيرها، وكذلك قوله تعالى( إنما الحياة الدنيا لهو ولعب) فظاهره -والله اعلم- الحصر باعتبار من آثرها ، وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فقد تكون سببا في الخيرات، ويكون ذلك من باب التغليب، فإذا وردت هذه اللفظة فاعتبرها، فإن دل السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص فقل به، وإلا فاحمل الحصر على الإطلاق، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) والمراد بالأعمال: الأعمال الشرعية.
ومعناه لا يعتد بالأعمال بدون النية، مثل الوضوء والغسل، والتيمم ، وكذلك الصلاة، والزكاة والصوم والحج، والاعتكاف وسائر العبادات، فأما إزالة النجاسات فلا تحتاج إلى نية، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغسل بغير نية.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم(إنما الأعمال بالنيات) محذوف ، اختلف جماعة من العلماء الى تقديره ، فالذين اشترطوا النية قدروا : صحة الأعمال بالنيات، والذين لم يشترطوها قدروا: كمال الأعمال بالنيات.
وقوله : (إنما لكل امرئ ما نوى) قال الخطابي : يفيد معنى خاصا غير الأول ، وهو تعيين العمل بالنية، وقال الإمام محيي الدين النووي : فائدة ذكره : أن تعيين المنوي شرط ، فلو كان على الإنسان صلاة مقضية ، لا يكفيه أن ينوي الصلاة بل يشترط أن ينوي كونها ظهرا أو عصرا أو غيرهما، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين، أو أوهم ذلك والله اعلم.
وقوله (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله) المتقرر عند أهل العربية : أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لابد أن يتغايرا، وههنا قد وقع الاتحاد وجوابه (فمن كانت هحرته إلى الله ورسوله) نية وقصدا (فهجرته إلى الله ورسوله) حكما وشرعا.
وهذا الحديث ورد على سبب ، لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة؛ ليتزوج امرأة يقال لها " أم قيس" لا يريد بذلك فضيلة الهجرة فكان يقال له " مهاجر أم قيس" ، والله اعلم.
هذا الحديث صحيح ، متفق على صحته،وعظيم موقعه وجلالته وكثرة فوائده، رواه الإمام البخاري في أكثر من موضع، ورواه الامام مسلم في آخر باب الجهاد.
وهو أحد الاحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال الإمام أحمد و الشافعي رحمهما الله يدخل في حديث النيات ثلث العلم، قاله البيهقي وغيره، وسبب ذلك أن العبد يكسب بقلبه ولساه وجوارحه والنية أحد الأقسام الثلاثة.
وروي عن الشافعي رضي الله عنه يدخل هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه، وقال جماعة من العلماء : هذا الحديث ثلث الإسلام.
واستحب العلماء أن تفتتح المصنفات به، وممن افتتح كتابه به الإمام أبو عبدالله البخاري، وقال عبد الرحمن بن مهدي : ينبغي لكل من صنف كتابا ، أن يبتدئ فيه بهذا الحديث تنبيها للطالب على تصحيح النية.
وهذا الحديث غريب بالنسبة إلى أوله مشهور بالنسبة إلى آخره لأنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا علقمة بن أبي وقاص ، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي ، ولم يروه عن محمد إلا يحيى بن إبراهيم الأنصاري، ثم اشتهر بعد ذلك فرواه أمثر من مائتين أكثرهم أئمة.
ولفظه (إنما) للحصر: تثبت المذكور وتنفي ما عداه، وهي تارة تقتضي الحصر المطلق ، وتارة تقتضي حصرا مخصوصا ، ويفهم ذلك بالقرائن؛ كقوله تعالى (إنما أنت منذر) فظاهره الحصر بالنذارة والرسول لا ينحصر في ذلك، بل له أوصاف كثيرة جميلة كالبشارة وغيرها، وكذلك قوله تعالى( إنما الحياة الدنيا لهو ولعب) فظاهره -والله اعلم- الحصر باعتبار من آثرها ، وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر فقد تكون سببا في الخيرات، ويكون ذلك من باب التغليب، فإذا وردت هذه اللفظة فاعتبرها، فإن دل السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص فقل به، وإلا فاحمل الحصر على الإطلاق، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) والمراد بالأعمال: الأعمال الشرعية.
ومعناه لا يعتد بالأعمال بدون النية، مثل الوضوء والغسل، والتيمم ، وكذلك الصلاة، والزكاة والصوم والحج، والاعتكاف وسائر العبادات، فأما إزالة النجاسات فلا تحتاج إلى نية، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغسل بغير نية.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم(إنما الأعمال بالنيات) محذوف ، اختلف جماعة من العلماء الى تقديره ، فالذين اشترطوا النية قدروا : صحة الأعمال بالنيات، والذين لم يشترطوها قدروا: كمال الأعمال بالنيات.
وقوله : (إنما لكل امرئ ما نوى) قال الخطابي : يفيد معنى خاصا غير الأول ، وهو تعيين العمل بالنية، وقال الإمام محيي الدين النووي : فائدة ذكره : أن تعيين المنوي شرط ، فلو كان على الإنسان صلاة مقضية ، لا يكفيه أن ينوي الصلاة بل يشترط أن ينوي كونها ظهرا أو عصرا أو غيرهما، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين، أو أوهم ذلك والله اعلم.
وقوله (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله) المتقرر عند أهل العربية : أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لابد أن يتغايرا، وههنا قد وقع الاتحاد وجوابه (فمن كانت هحرته إلى الله ورسوله) نية وقصدا (فهجرته إلى الله ورسوله) حكما وشرعا.
وهذا الحديث ورد على سبب ، لأنهم نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة؛ ليتزوج امرأة يقال لها " أم قيس" لا يريد بذلك فضيلة الهجرة فكان يقال له " مهاجر أم قيس" ، والله اعلم.
عدل سابقا من قبل بنت الخطاب في السبت أبريل 16, 2022 8:59 pm عدل 5 مرات
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . للتصحيح الاربعون النووية للإمام النووي وتسمى النووية نسبة له . و إبن دقيق العيد فقط شرحها مثل ما شرح احاديث كتاب عمدة الأحكام . وهناك إضافة لإبن رجب عليها حتى أتمها خمسون حديثا . وهي اول متون الحديث الواجب على الطالب البدئ بها ثم عمدة الاحكام ثم بلوغ المرام ثم رياض الصالحين والله اعلم . والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين .
زائر- زائر
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
جزاك الله خيرا أخي أبو عبد الرحمن على التنويه
بارك الله فيك
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أنه قَال : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ إَذْ طَلَعَ عَلَيْناَ رَجُلٌ شَدِيْدُ بَيَاضِ الثّياب شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنا أحَدٌ حَتى جَلَسَ إلَى النبِي فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفيْهِ عَلَى فَخِذِيْهِ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : " الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إلَه إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله ، وَتُقِيْمَ الصَّلاَة ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ البيْتَ إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلاً " قَالَ: صَدَقْتَ. فَعجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرِنيْ عَنِ الإِيْمَانِ، قَالَ: " أَنْ تُؤمِنَ بِالله، وَمَلاِئكَتِه، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَالْيَومِ الآَخِر ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ فَأخْبِرْنِيْ عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ : " مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " قَالَ : فَأخْبِرْنِيْ عَنْ أَمَارَاتِها ، قَالَ : " أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ " ثْمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثتُ مَلِيَّاً ثُمَّ قَالَ : " يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ قَالَ : " فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلَّمُكُمْ دِيْنَكُمْ " .رواه مسلم
قال ابن دقيق:
هذا حديث عظيم، اشتمل على جميع وظائف الاعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة اليه، ومتشعبة منه، لما تضمنه من جمعه علم السنة، فهو كالأم للسنة، كما سميت الفاتحة أم القرأن، لما تضمنته من جمعها معاني القران.
وفيه دليل على تحسين الثياب والهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك، فإن جبريل أتى معلما بحاله ومقاله.
وقوله ( لا يرى عليه أثر السفر) المشهور ضم الياء من (يرى) مبينا لم لم يسم اسم فاعله، ورواه بعضهم بالنون المفتوحة، و كلاهما صحيح.
وقوله: (ووضع كفيه على فخذيه, وقال : يا محمد) هكذا هو المشهور الصحيح، ورواه النسائي بمعناه . وقال : (فوضع كفيه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم)
فارتفع الاحتمال الذي في لفظ كتاب مسلم؛ فإنه قال فيه : ( فوضع كفيه على فخذيه) وهو محتمل.
وقد استفيد من هذا الحديث : أن الاسلام والإيمان حقيقتان متباينتان لغة وشرعا، وهذا هو الأصل في الاسماء المختلفة، وقد يتوسع فيهما الشرع ، فيطلق أحدهما على الأخرى على سبيل التجوز.
وقوله : ( فعجبنا له يسأله ويصدقه) إنما تعجبوا من ذلك؛ لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه، ثم هو قد سأل سؤال عارف محقق مصدق ، فتعجبوا من ذلك.
قوله : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)
الإيمان بالله : هو التصديق بأنه سبحانه وتعالى موجود موصوف بصفات الجلال والكمال , منزه عن صفات النقص , وأنه واحد حق صمد فرد خالق جميع المخلوقات، متصرف فيما يشاء، يفعل في ملكه ما يريد.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
والإيمان بالملائكة : هو التصديق بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون.
والإيمان برسل الله هو [ التصديق ] أنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، وأنهم بلغوا عن الله رسالاته، وبينوا للمكلفين ما أمرهم الله به، وأنه يجب احترامهم ، وأن لا يفرق بين أحد منهم.
والإيمان باليوم الآخر : هو التصديق بيوم القيامة وما اشتمل عليه من الإعادة بعد الموت والحشر والنشر والحساب والميزان والصراط والجنة والنار ، وأنهما دار ثوابه وجزائه للمحسنين والمسيئين، إلى غير ذلك مما صح من النقل.
والإيمان بالقدر : هو التصديق بما تقدم ذكره.
وحاصله ما دل عليه قوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون)[الصافات:96] وقوله : (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر : 49] ونحو ذلك.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)
ومذهب السلف وأئمة الخلف : أن من صدق بهذه الأمور تصديقا جازما لا ريب فيه ولا تردد: كان مؤمنا حقا، سواء كان ذلك عن براهين قاطعة أو عن اعتقادات جازمة.
وقوله في الإحسان : ( أن تعبد الله كأنك تراه ...) حاصله راجع إلى اتقان العبادات، ومراعاة حقوق الله ومراقبته، واستحضار عظمته وجلالته حال العبادات.
قوله : ( فأخبرني عن أماراتها) بفتح الهمزة والأمارة :العلامة ، و(الأمَة) الجارية المستولدة، و ( ربَّتها) : سيدتها، وجاء في رواية (بعلها) وقد روي أن أعرابيا سئل عن هذه الناقة، قال : أنا بعلها، ويسمى الزوج : بعلا ، وهو في الحديث (ربَّتها) بالتأنيث.
واختلف في قوله : ( أن تلد الأمَة ربَّتها) فقيل : المراد به أن يستولي المسلمون على بلاد الكفر؛ فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها؛ لشرفه بأبيه، وعلى هذا فالذي يكون من أشراط الساعة استيلاء المسلمين على المشركين، وكثرة الفتوح والتسري. وقيل : معناه أن تفسد أحوال الناس؛ حتى يبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر تردادهن في أيدي المشترين، فربما اشتراها ولدها ولا يشعر بذلك فعلى هذا الذي يكون من أشراط الساعة: غلبة الجهل بتحريم بيعهن، وقيل معناه أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب و (العالة) بتخفيف اللام : جمع عائل وهو الفقير.
وفي الحديث كراهة ما لا تدعوا الحاجة إليه من تطويل البنيان وتشييده، وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يؤجر ابن آدم في كل شيء إلا ما وضعه في هذا التراب) ، ولم يضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة ، أي لم يشيد بناءه ولا طوَّله ولا تأنق فيه.
وقوله : ( رعاة الشاء) إنما خص رعاة الشاء بالذكر؛ لأنهم أضعف أهل البادية، معناه أنهم مع ضعفهم وبعدهم عن أسباب ذلك بخلاف أهل الإبل؛ فإنهم في الغالب ليسوا عالة ولا فقراء.
وقوله : ( فلبثتُ مليا) قد روي بالتاء، يعني لبث عمر رضي الله عنه، وروي ( فلبث) بغير تاء يعني : أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه، وكلاهما صحيح المعنى.
وقوله : (مليا) هو بتشديد الياء، أي زمانا كثيرا، وكان ذلك ثلاثا، هكذا جاءلامبينا في رواية أبي داود وغيره.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
وقوله : ( أَتاكم يُعلمكم أمور دينَكم) أي قواعد دينكم أو كليات دينكم:
[قال] الشيخ محي الدين في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم : أهم ما يذكر في هذا الحديث بيان الإسلام والإيمان والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله تعالى، وذكر في بيان الإسلام والإيمان كلاماً طويلا، وحكى فيه أقوال جماعة من العلماء؛ منها ما حكاه الإمام أبي الحسن المعروف بابن بطال المالكي أنه قال : مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ بدليل قوله تعالى : ( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) [الفتح : 4] ونحوها من الآيات، قال بعض العلماء نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، قالوا : وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة [ وأقاويل السلف]، وبين أصل وضعه في اللغة ، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا [حسنا]؛ فالأظهر - والله اعلم - أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر؛ لظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقيين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا يعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة منيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال،فأما غيرهم من المؤلفة قلوبهم ومن قاربهم فليسوا كذلك، وهذا لا يمكن إنكاره، ولا يشك عاقل في نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه : أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول، إنه على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال؛ فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر ؛ قال الله تعالى : ( وما كان الله ليضييع إيمانكم)[البقرة : 143] أي صلاتكم، وحكي عن الشيخ أبي عمروبن الصلاح في قوله صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ... الخ) ، ثم فسر الإيمان بقوله : ( أن تؤمن بالله وملائكته ...إلخ) قال رحمه الله : هذا بيان أصل الإيمان وهو التصديق الباطن، وبيان أصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت في الشهادتين، وإنما أضاف إليها الصلاة والصوم والحج؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يصح [استسلامه]، ثم إن اسم الايمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان.
ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة، لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بنية ، وكذلك جاز نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) .
واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام، قال : فخرج بما ذكرناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، وقال : فهذا التحقيق واف بالتوفيق، ونصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون ، وما حققناه من ذلك موافق لمذهب جماهير العلماء من أهل الحديث، والله اعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الثالث
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النبي ﷺ يَقُوْلُ: " بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البِيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ " رواه البخاري ومسلم.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى : يعني أن هذه الخمس أساس دين الإسلام وقواعده التي عليها بني وبها يقوم،وإنما خص هذه بالذكر، ولم يذكر معها الجهاد مع أنه يظهر الدين ويقمع عناد الكافرين؛ لأن هذه الخمس فرض دائم والجهاد من فرض الكفايات، وقد يسقط في بعض الأوقات .
وقد وقع في بعض الروايات في هذا الحديث تقديم الحج على الصوم وهو وهم والله أعلم لأن ابن عمر لما سمع المستعيد يقدم الحج على الصوم زجره ونهاه عن ذلك، وقدم الصوم على الحج ، وقال : ( هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم)
وفي رواية لابن عمر ( بني الإسلام على أن تعبد الله وتكفر بما سواه، وإقام الصلاة..... إلى آخره) وفي رواية أخرى : أن رجلا قال لعبد الله بن عمر : ألا تغزو؟ فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله يقول : إن الإسلام بني على خمس) ووقع في بعض الطرق ( على خمسة) بالهاء، وفي بعضها بلا هاء ، وكلاهما صحيح، وهذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده ، فإنه قد جمع أركانه.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُوْلُ اللهِ ﷺ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ : " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنفُخُ فِيْهِ الرٌّوْحَ،وَيَؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ. فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنََّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَايَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا " رواه البخاري ومسلم.
قوله : ( وهو الصادق المصدوق) أي الصادق في قوله المصدوق فيما يأتيه من الوحي الكريم.
قال بعض العلماء: معنى قوله : ( إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه) أن المني يقع في الرحم متفرقا فيجمعه الله في محل الولادة في هذه المدة.
وقد جاء عن ابن مسعود في تفسير ذلك : أن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله تعالى أن يخلق منها بشرا طارت في بشر المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تصير دما في الرحم، فذلك جمعها، وهو وقت كونها علقة.
قوله : (ثم يرسل إليه المَلك) يعني الملك الموكل بالرحم.
قوله: (فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة .... إلخ) ظاهر الحديث : أن هذا العامل كان عمله صحيحا، وأنه قرب من الجنة بسبب عمله؛ حتى بقي له على دخولها ذراع، وإنما منعه من ذلك سابق القدر الذي يظهر عند الخاتمة، فإن الأعمال بالسوابق، لكن لما كانت السابقة مستورة عنا، والخاتمة ظاهرة جاء في الحديث ( إنما الأعمال بالخواتيم) يعني عندنا بالنسبة إلى اطلاعنا في بعض الأشخاص، وفي بعض الأحوال، وأما الحديث الذي ذكره مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار) فإنه لم يكن عمله صحيحا في نفسه، وإنما كان رياء وسمعة، فيستفاد من ذلك الحديث ترك الالتفات إلى الأعمال والركون إليها، والتعويل على كرم الله ورحمته.
وقوله قبل ذلك : ( ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله) هو بالباء الموحدة في أوله على البدل من ( أربع كلمات).
وقوله : ( شقي وسعيد) مرفوع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو شقي أو سعيد.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة) إلى قوله : ( فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) المراد: أن هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم، وذلك من لطف الله سبحانه، وسعة رحمته، فإن انقلاب الناس من الشر إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور، ولله الحمد والمنة على ذلك، وهو تجوُّز، وقوله: ( إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية ( تغلب غضبي) . وفي هذا الحديث إثبات القدر، كما هو مذهب أهل السنة، وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره؛ خيرها وشرها، نفعها وضرها؛ قال الله تعالى : (لا يُسئل عما يَفعل وهم يُسئَلون)[الأنبياء:23]
ولا اعتراض عليه في ملكه يفعل في ملكه ما يشاء.
قال الإمام السمعاني : سبيل معرفة هذا الباب: التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سرٌ من أسرار الله تعالى ، ضربت دونه الأستار واختص سبحانه به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة، وواجب علينا أن نقف حيث لنا فلا نتجاوزه، وقد حجب الله تعالى علم القدر عن العالم فلا يعلمه ملك [مقرب] ولا نبي مرسل ، وقيل : إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل ذلك.
وقد ثبتت الأحاديث النهي عن ترك العمل اتكالا على ما سبق من القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد بها الشرع ( وكل ميسر لما خلق له) لا يقدر على غيره ، فمن كان من ، أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعمل أهل الشقاوة كما في الحديث، وقال الله تعالى : ( فسنيسره لليسرى)[الليل:7] ، (فسنيسره للعسرى) [الليل: 10]
قال العلماء : وكتاب الله تعالى ولوحه وقلمه : كل ذلك مما يجب الإيمان به، وأما كيفية ذلك، وصفته فعلمه إلى الله تعالى : ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) [البقرة: 255] والله أعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الخامس
عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللهِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ : " مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم : " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ "
قال أهل اللغة: الرد هنا بمعنى المردود: أي فهو باطل غير معتد به.
وقوله : (ليس عليه أمرنا) يعني حكمنا.
هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل بدعة وكل مخترع، ويستدل به على إبطال جميع العقود الممنوعة وعدم وجود ثمراتها، واستدل به بعض الأصوليين على أن النهي يقتضي الفساد.
وفي الرواية الأخرى، وهي قوله: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَد) صريح في ترك كل محدثة؛ سواء أحدثها فاعلها أو سبق إليها؛ فإنه قد يحتج به بعض المعاندين إذا فعل البدعة، فيقول، ما أحدثت شيئا ، فيحتج عليه بهذه الرواية.
وهذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشاعته واستعماله في إبطال المنكرات؛ فإنه يتناول ذلك كله، فأما تفريع الأصول التي لا تخرج عن السنة؛ فلا يتناولها هذا الرد ككتابة القرآن العزيز في المصاحف، وكالمذاهب التي عن حسن نظر الفقهاء المجتهدين الذين يردون الفروع إلى الأصول التي هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكالكتب الموضوعة في النحو والحساب والفرائض، وغير ذلك من المعلوم مما مرجعه ومبناه على أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأوامره، فإن ذلك لا يدخل في هذا الحديث.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث السادس
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ يَقُوْلُ: (إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس،ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً . أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ) رواه البخاري ومسلم
هذا الحديث أصل عظيم من اصول الشريعة، قال أبو داود السجستاني: الإسلام يدور على أربعة أحاديث ؛ ذكر منها هذا الحديث؛ وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده.
قوله : (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات) يعني أن الأشياء ثلاثة أقسام: فما نص الله على تحليله فهو الحلال كقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ)[المائدة:5] وكقوله : ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ)[النساء:24] ونحو ذلك ، وما نص الله على تحريمه فهو الحرام البين، مثل قوله تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ)[النساء:23] وكتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ما جعل الله فيه حدا أو عقوبة أو وعيدا فهو حرام، وأما الشبهات فهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة وتتجاذبه المعاني فالإمساك عنه ورع.
وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فقالت طائفة هي حرام، لقوله : ( استبرأ لدينه ولعرضه) قالوا ومن لم يستبرأ لدينه وعرضه فقد وقع في الحرام، وقال الآخرون: هي حلال؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : ( كالراعي يرعى حول الحمى) فيدل على أن ذلك حلال، وأن تركه ورع، وقالت طائفة أخرى :
المشتبهات في هذا الحديث لا نقول إنها حلال ولا حرام ، فإنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين الحلال البين والحرام البين ، فينبغي أن نتوقف عنها، وهذا من باب الورع أيضا.
وقد ثبت في حديث الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام، فقال سعد: يا رسول الله، هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إلي أنه ابنه؛ انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة، هذا أخي، يا رسول الله ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى شبها بينّنا بعتبة، فقال ( هو لك يا عبد بن زمعة؛ الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة) فلم تره سودة قط، فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش، وأنه لزمعة على الظاهر، وأنه أخو سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بنت زمعة، وذلك على سبيل التغليب لا على سبيل القطع، ثم أمر سودة بالاحتجاب منه للشبهة الداخلة عليهن فاحتاط لنفسه، وذلك من فعل الخائفين من الله عز وجل، إذ لو كان الولد ابن زمعة في علم الله عز وجل لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوتها؛ عبد وغيره.
وفي حديث عدي بن حاتم، أنه قال : ( يا رسول الله، إني أرسل كلبي وأسمي عليه، فأجد معه على الصيد كلبا آخر، قال : ( لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره) فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشبهة أيضا خوفا من أن يكون الكلب الذي قتله غير المسمى عليه، فكأنه أهل لغير الله به، وقد قال الله تعالى في ذلك ( وَإِنَّهُۥ لَفِسْقٌ )[الأنعام:121] فكان في فتياه صلى الله عليه وسلم دلالة على الاحتياط في الحوادث والنوازل المحتملة للتحليل والتحريم؛ لاشتباه أسبابها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلمدع ما يريبك إلى ما لايريبك) ، وقال بعض العلماء: المشتبهات ثلاثة أقسام:
منها ما ؛ هل زال تحريمه أم لا، كالذي يحرم على المرء أكله قبل الذكاء إذا شك في ذكاته لم يزل التحريم إلا بيقين الذكاة، والاصل في ذلك حديث عديّ المتقدم ذكره.
وعكس ذلك أن يكون الشيء حلالا فيشك في تحريمه، كرجل له زوجة فشك في طلاقها ، أو أمة فيشك في عتقها، فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يعلم تحريمه، والأصل في هذا حديث عبدالله بن يزيد فيمن شك في الحدث بعد أن تيقن الطهارة.
القسم الثالث: أن يشك في شيء فلا يدري : أحلال أم حرام؟ ويحتمل الأمرين جميعا، ولا دلالة على أحدهما، فالأحسن التنزه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الثمرة الساقطة حين وجدها في بيته، فقال: ( لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) وأما إن جوَّز نقيض ما ترجح عنده بأمر موهوم لا أصل له ، كترك استعمال ماء باق على أوصافه مخافة تقدير نجاسة وقعت فيه، أو كترك الصلاة في موضع لا أثر فيه مخافة أن يكون فيه بول قد جف ، أو كغسل ثوب مخافة إصابة نجاسة لم يشاهدها ونحو ذلك، فهذا يجب أن لا يلتفت إليه، فإن التوقف لأجل ذلك التجويز هوس، والورع منه وسوسة شيطان، إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يعلمهن كثير من الناس) أي لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم، وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث أنها مشكلة؛ لترددها بين أمور محتملة، فإذا علم بأي أصل تلتحق زال كونها شبهة، وكانت إما من الحلال أو من الحرام، وفيه دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها يدل عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض الناس.
وقوله : ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) مما يشتبه.
وأما قوله: ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) فذلك يكون بوجهين :
أحدهما: أن من لم يتق الله وتجرأ على الشبهات أفضت به إلى المحرمات، ويحمله التساهل في أمرها على الجرأة على الحرام، كما قال بعضهم الصغيرة تجر الكبيرة، والكبيرة تجر الكفر، وكما روي ( المعاصي بريد الكفر)
الوجه الثاني: أن من أكثر مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه؛ لفقدان نور العلم ونور الورع، فيقع في الحرام وهو لا يشعر به. وقد يأثم بذلك إذا تسبب منه إلى تقصير.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) هذا مثل ضربه لمحارم الله عز وجل، وأصله أن العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها، وتخرج بالتوعد بالعقوبة لمن قربها؛ فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته عن ذلك الحمى؛ لأنه إن قرب منه، فالغالب الوقوع فيه، لأنه قد تنفرد الفاذة وتشذ الشاذة، ولا ينضبط ، فالحذر: أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك، وهكذا محارم الله عز وجل: من القتل، والربا، والسرقة وشرب الخمر، والقذف، والغيبة، والنميمة، ونحو ذلك: لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها.
و (يوشك) بكسر الشين مضارع ( أوشك) بفتحها، وهي من أفعال المقاربة، و(يرتع) معناها : أكل الماشية من المرعى، وأصله إقامتها فيه وبسطها في الأكل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله) الحديث. و(المضغة) القطعة من اللحم، وهي قدر ما يمضغه الماضغ ، يعني بذلك صغر جرمها وعظيم قدرها، و(صلحت) رُويناه بفتح اللام، و(القلب) في الأصل مصدر، وسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الأعضاء؛ لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه . وأنشد بعضهم في هذا المعنى :
ما سمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وخص الله تعالى جنس الحيوان بهذا العضو، وأودع فيه تنظيم المصالح المقصودة، فتجد البهائم على اختلاف انواعها تدرك به مصالحها، وتميز به مضارها من منافعها، ثم خص الله نوع الإنسان من سائر الحيوان بالعقل وأضافه إلى القلب، فقال تعالى : (أفَلَم يسيروا فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) وقد جعل الله الجوارح مسخرة له ومطيعة،فما استقر فيه ظهر عليها وعملت على معناه؛ إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
فإذا فهمت هذا ظهر لك قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) نسأل الله العظيم أن يصلح فساد قلوبنا. يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.ِ
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث السابع
عَنْ أَبِيْ رُقَيَّةَ تَمِيْم بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النبي ﷺ قَالَ: ( الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: للهِ، ولكتابه، ولِرَسُوْلِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ) رواه مسلم.
ليس لتميم الداري رضي الله عنه غير هذا الحديث، و(النصيحة) كلمة جامعة معناها إرادة جملة الخير حيازة لحظ المنصوح له، وهي من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح : ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخيري الدنيا والآخرة منها.
ومعنى قوله: (الدين النصيحة) أي عماد الدين وقوامه: النصيحة ، كقوله (الحج عرفة) أي عماده ومعظمه.
وأما تفسير النصيحة وأنواعها، فقال الخطابي وغيره من العلماء: النصيحة لله تعالى معناها منصرف إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه، وترك الإلحاد في صاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه عن جميع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض فيه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته والشكر عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة، والحث عليها، والتلطف بالناس، قال الخطابي: وحقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فإن الله تعالى غني عن نصح الناصح.
وأما النصيحة لكتابه عزو جل: فبالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الناس ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته، وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين، ولتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه. وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار [بمواعظه]، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرناه من نصيحته.
وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم: فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيا وميتا،ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه، وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وإجابة دعوته، ونشر سنته، ونفي التهمة عنها، واستئثار علومها والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعليمها، وإعظامها وإجلالها والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغيرعلم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها.
والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته، وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم، وأمرهم به وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه، وتبليغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم بالسيف، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأن يدعو لهم بالصلاح.
وأما نصيحة عامة المسلمين-وهم من عدا ولاة الأمر- فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وإعانتهم عليها، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، والله أعلم.
والنصيحة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقط عن غيره، وهي لازمة على قدر الطاقة.
والنصيحة في اللغة: الإخلاص، يقال نصحت العسل إذا صفيته، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الثامن
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ وَيُقِيْمُوْا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهَمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى) رواه البخاري ومسلم
هذا حديث عظيم، وقاعدة من قواعد الدين: وقد روى هذا الحديث أنس ، وقال( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين) وجاء في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به) وذلك موافق لرواية ابن عمر في المعنى.
وأما معاني هذا الحديث، فقال العلماء بالسيّر: ( لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده، وكفر من كفر من العرب، عزم أبو بكر على قتالهم، وكان منهم من منع الزكاة ولم يكفر، وتأول في ذلك، فقال له عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) . . . آخر الحديث ؟ فقال الصديق : إن الزكاة حق المال، وقال : ( والله لو منعوني عناقا - وفي رواية : عقالا - كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فتابعه عمر على قتال القوم).
قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله؛ فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)
قال الخطابي وغيره : المراد بهذا أهل الأوثان ومشركو العرب ومن لا يؤمن ، دون أهل الكتاب ومن يقر بالتوحيد؛ فلا يكتفي في عصمته بقوله: لا إله إلا الله ، إن كان يقولها في كفره ، وهي من اعتقاده، وكذلك جاء في الحديث الآخر( وإني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) وقال الشيخ محيي الدين النووي: ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)
ومعنى قوله ( وحسابهم على الله) أي فيما يسترونه ويخفونه دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة، ذكر ذلك الخطابي.
قال وفيه من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر، وهذا قول أكثر أهل العلم، وذهب مالك إلأى أن توبة الزنديق لا تقبل وهي رواية عن الإمام أحمد، وفي قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به) دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله بها، خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في [كونه من] أهل القبلة ، وهذا خطأ ظاهر، فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل، وقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيح يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي)، والله أعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث التاسع
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ يَقُوْلُ: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) رواه البخاري ومسلم
لفظ هذا الحديث في كتاب مسلم عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا أيها الناس، قد فرض الله الحج عليكم فحجوا) ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) ثم قال : ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه) والرجل الذي سأله هو الأقرع ابن حابس، كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية.
واختلف الأصوليون في الأمر، هل يقتضي التكرار؟ فاختار أكثر الفقهاء والمتكلمين أنه لا يقتضي التكرار، وقال آخرون: لا يحكم باقتضائه ولا منعه، بل يتوقف فيما زاد على مرة على البيان، وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف، فإنه سأل فقال: أكل عام؟ ولو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) بل ولم يكن حاجة إلى السؤال، بل مطلقه محمول على كذا، وأجمعت الأمة على أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة بأصل الشرع.
وأما قوله: ( ذروني ما تركتكم) فهو ظاهر في أن الأمر لا يقتضي التكرار. ويدل هذا اللفظ أيضا على أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع، وهو الصحيح عند كثير من الأصوليين.
وقوله: ( لو قلت نعم لوجبت) دليل للمذهب الصحيح في أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام، وأنه لا يشترط في حكمه أن يكون بوحي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومما أوتيه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة إذا عجز عن بعض أركانها، أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن غسل بعض أعضاء الوضوء غسل الممكن، وكذلك إذا وجبت فطرة جماعة ممن يلزمه نفقتهم، وكذلك أيضا في إزالة المنكرات إذا لم يمكنه إزالة جميعها فعل الممكن، وأشباه ذلك مما لا ينحصر، وهو مشهور في كتب الفقه، وهذا الحديث، كقوله تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم)[التغابن:16]
وأما قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) [آل عمران:102] فقيل منسوخة، بقوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) قال بعضهم: والصحيح أنها ليست منسوخة بها، بل هي مفسرة لها ومبينة للمراد منها قالوا: و (حق تقاته) : هو امتثال أمره، واجتناب نواهيه، والله سبحانه لم يأمر إلا بالمستطاع، فإن الله تعالى قال: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)[البقرة:286]، وقال تعالى: ( وما جعلنا عليكم في الدين من حرج) [الحج:18]
وأما قوله عليه الصلاة والسلام( مانهيتكم عنه فاجتنبوه) فهذا على إطلاقه، لكن إن وجد عذر يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة ونحوه، فهذا لا يكون منهيا عنه في هذه الحال، وأما في غير حال العذر، فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى يترك كل ما نهى عنه، ولا يخرج بترك فعل واحد بخلاف الأمر، وهذا الأصل إذا فهم فهو مسألة مطلق الأمر، هل يحمل على الفور أو على التراخي، أو على المرة الواحدة أو التكرار، ففي هذا الحديث أبواب من الفقه، والله أعلم.
وقوله: ( فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم) وذكر ذلك بعد قوله ( ذروني ما تركتكم) أراد: لا تكثروا السؤال فربما يكثر الجواب عليه، فيضاهي ذلك قصة بني إسرائيل لما قيل لهم : ( اذبحوا بقرة) فإنهم لو اقتصروا على ما يصدق عليه اللفظ وبادروا إلى ذبح أي بقرة كانت أجزأت عنهم، لكن لما أكثروا السؤال، وشددوا شُدّد عليهم، وذُموا على ذلك، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أمته.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث العاشر
عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ : (إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ فَقَالَ : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) (المؤمنون: الآية51) ، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (البقرة: الآية172) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء،ِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ،وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك) رواه مسلم.
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام ، وفيه الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره، وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالا خالصا لا شبهة فيه، وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره، وفيه أن العبد إذا أنفق نفقة طيبة، فهي التي تزكو وتنمو وأن الطعام اللذيذ غير المباح يكون وبالا على آكله، ولا يقبل الله عمله.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ) إلى آخره : معناه - والله أعلم- يطيل السفر في وجوه الطاعات: لحج وجهاد وغير ذلك من وجوه البر، ومع هذا فلا يستجاب له؛ لكون مطعمه ومشربه وملبسه حرام، فكيف بمن هو منهمك في الدنيا أو في مظالم العباد أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخيرات؟!
وقوله: ( يمد يديه) أي يرفعهما بالدعاء لله مع مخالفته وعصيانه.
قوله : ( وغُذي بالحرام) هو بضم العين المعجمة وتخفيف الذال المكسورة.
وقوله: ( فأنى يستجاب له) وفي رواية ( فأنى يستجاب لذلك) يعني من أين يستجاب لمن هذه صفته، فإنه ليس أهلا للإجابة، لكن يجوز أن يستجيب الله تعالى له تفضلا ولطفا وكرما، والله أعلم .
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الحادي عشر
عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ عَلِيّ بنِ أبِي طالبٍ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَفِظْتَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ : (دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ) رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأشهر ويجوز الضم، يقال: رابني الشيء وأرابني، ومعناه : اترك ما شككت فيه، واعدل إلى ما تشك فيه، وهذا راجع إلى معنى الحديث السادس، وهو قوله: ( الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات) وقد جاء في حديث آخر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما بأس به) وهذه درجة أعلى من ذلك.
عدل سابقا من قبل بنت الخطاب في الأربعاء أبريل 13, 2022 11:27 pm عدل 1 مرات
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الثاني عشر
عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ : (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ) حديثٌ حسنٌ، رواه الترمذي وغيره هكذا
وقد رواه قرّة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وصحح طرقه، ثم قال في هذا الحديث: هذا من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة، ونحو ذلك قول أبي ذر ّفي بعض حديثه : ( ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه) ، وذكر مالك أنه بلغه أنه قيل للقمان : ما بلغ بك ما نرى؟ يريدون الفضل ، فقال : ( صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني) .
وروي عن الحسن قال : ( من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، قال : قال أبو داود : أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث، وذكر منها هذا الحديث.
عدل سابقا من قبل بنت الخطاب في الأربعاء أبريل 13, 2022 11:26 pm عدل 1 مرات
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الثالث عشر
عَنْ أَبِيْ حَمْزَة أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ خَادِمِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ عَن النبي ﷺ قَالَ: (لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري ومسلم
هكذا جاء في صحيح البخاري (لأخيه) من غير شك، وجاء في صحيح مسلم ( حتى يحب لأخيه) ، أو ( لجاره) على الشك.
قال العلماء: يعني لا يؤمن من الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة، والمراد: يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي( حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه).
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : وهذا قد يعد من الصعب الممتنع، وليس كذلك، إذ معناه: لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، بحيث لا ينقص عليه شيء من النعمة،، وذلك سهل قريب على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدَّغِل ، عافانا الله تعالى وإخواننا أجمعين .
وقال أبو الزناد: ظاهر هذا الحديث التساوي، وحقيقته التفضيل، لأن الإنسان يحب أن يكون أفضل الناس، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل هو في جملة المفضولين.
ألا ترى أن الإنسان يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته، فإن أكمل إيمانه وكان لأخيه عنده مظلمة أو حق بادر إلى إنصافه من نفسه، وإن كان عليه فيه مشقة.
ويُحكي أن الفضيل بن عياض قال لسفيان عيينة: إن كنت تريد أن يكون الناس مثلك فما أديت لله الكريم النصيحة، فكيف وأنت تود أنهم دونك؟!.
وقال بعض العلماء: في هذا الحديث من الفقه أن المؤمن مع المؤمن؛ كالنفس الواحدة، فينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه، من حيث إنهما نفس واحدة، كما جاء في الحديث الآخر( المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عذو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) .
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الرابع عشر
عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِيْ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّاركُ لِدِيْنِهِ المُفَارِقُ للجمَاعَةِ) رواه البخاري ومسلم
وفي بعض الروايات المتفق عليها، ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)، فقوله ( يشهد أن لا إله إلا الله) كالتفسير لقوله: (مسلم) وكذا قوله : ( المفارق للجماعة) كالتفسير لقوله : (التارك لدينه) وهؤلاء مباحو الدم بالنص، والمراد بالجماعة: المسلمون، وإنما فراقهم بالرِّدة عن الدين، وهي سبب لإباحة دمه.
وقوله: ( التارك لدينه المفارق للجماعة) عامّ في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت ، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام.
قال العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما، والله أعلم.
والظاهر أن هذا عام يخص منه الصائل ونحوه، فيباح قتله في دفع أذاه، وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة، ويكون المراد: لا يحل تعمد قتله قصدا إلا في هؤلاء الثلاثة، والله أعلم.
وقد استدل بعضهم على أن تارك الصلاة يقتل لتركها؛ لأن تركها يسمى من هذه الثلاثة، وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء: منهم من يكفر تارك الصلاة، ومنهم من لا يكفره، واستدل بعض من يكفره بالحديث الآخر ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) قال : فوجه الدليل أنه وقف العصمة على مجموع الشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ووالمرتب على أشياء لا يحصل إلا بمجموعها، وينتفي بانتفائها، وهذا إن قصد به الاستدلال بالمنطوق- وهو قوله ( أمرت أن أقاتل الناس ... الخ) فإنه يقتضي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية- فقد ذهل وسهى ، لأنه فرق بين المقاتلة على شيء وقتل عليه ، فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين، ولا يلزم من وجوب المقاتلة على الصلاة وجوب القتل عليها إذا تركها من غير أن يقاتلنا ، والله أعلم.
وقوله: ( الثيب الزاني) هو المحصن، ويدخل فيه الذكر والأنثى، وهو حجة على ما اتفق عليه المسلمون من أن حكم الزاني الرجم بشروطه المذكورة في أبواب الفقه.
وقوله : (النفس بالنفس) موافق لقوله تعالى ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)[المائدة:45] ويعني به النفوس المتكافئة في الإسلام والحرية، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يقتل مسلم بكافر) وكذلك الحرية شرط في المكافئة عند مالك والشافعي واحمد، وذهب أصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل بالذمي، وأن الحر يقتل بالعبد، وقد يستدلون بهذا الحديث، والجمهور على خلاف في ذلك.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الخامس عشر
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أَو لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) رواه البخاري ومسلم
قوله: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) يعني من كان يؤمن الإيمان المنجي من عذاب الله الموصل إلى رضوان الله ( فليقل خيرا أو ليصمت)؛ لأن من آمن بالله حق إيمانه خاف وعيده ورجا ثوابه واجتهد في فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وأهم ما عليه من ذلك: ضبط جوارحه التي هي من رعاياه وهو المسؤول عنها، كما قال تعالى: ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) [الإسراء:36] وقال تعالى : ( وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)[ق:18] وآفات اللسان كثيرة.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم). وقال : ( كل كلام ابن آدم عليه إلا ذكر الله تعالى وأمر بمعروف ونهي عن منكر) فمن علم ذلك وآمن به حق إيمانه اتقى الله في لسانه، فلا يتكلم إلا بخير أو يسكت.
قال بعض العلماء: جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث: ذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) قال أهل اللغة : يقال صمت يصمُت - بضم الميم- صمتا وصموتا وصماتا.
وقال بعضهم في معنى هذا الحديث: إذا أراد الإنسان أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه فليتكلم، وإلا فليمسك عن الكلام سواء ظهر أنه حرام أو مكروه أو مباح، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة أن ينجرّ إلى المحرم أو المكروه، وقد يقع ذلك كثيرا، قال الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)[ق:18].
واختلف العلماء في أنه : هل يكتب على الإنسان جميع ما يلفظ به، وإن كان مباحا؟ أو لا يكتب عليه إلا ما فيه الجزاء من ثواب أو عقاب؟ وإلى القول الثاني ذهب ابن عباس وغيره ، فعلى هذ، أي ما يلفظ من قول يترتب عليه جزاء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( فليكرم جاره ... فليكرم ضيفه) فيه تعريف لحق الجار والضيف وبرهما، وحث على حفظ الجوارح، وقد أوصى الله تعالى في كتابه بالإحسان إلى الجار، وقال صلى الله عليه وسلم ( ما زال جبريل يوصيني بالجار؛ حتى ظننت أنه سيورثه) والضيافة من الإسلام وخلق النبيين والصالحين، وقد أوجبها بعض العلماء وأكثرهم على أنها من مكارم الأخلاق.
وقال صاحب الإفصاح: في هذا الحديث من الفقه أن يعتقد الإنسان أن إكرام الضيف عبادة لا ينقصها أن يضيّف غنيا ولا يغيرها أن يقدم إلى ضيفه اليسير مما عنده، فإكرامه أن يسارع إلى البشاشة في وجهه، ويطيب الحديث له ، وعماد أمر الضيافة إطعام الطعام، فينبغي أن يبادر بما فتح الله من غير كلفة ، وذكر كلاما في الضيافة، ثم قال: وأما قوله : ( فليقل خيرا أو ليصمت) فإنه يدل على أن قول الخير خير من الصمت، والصمت خير من قول الشر.
وذلك أنه أمر بلام الأمر بقول الخير، وبدأ به على الصمت، ومن قول الخير: الإبلاغ عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وتعليم المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن علم، والإصلاح بين الناس، وأن يقول للناس حسنا، ومن أفضل الكلمات كلمة حق عند من يخاف ويرجى في ثبات و سداد.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث السادس عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ ﷺ : أَوصِنِيْ، قَال : (لاَ تَغْضَبْ) . رواه البخاري
قال صاحب الافصاح : من الجائز أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من هذا الرجل كثرة الغضب فخصه بهذه الوصية، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم الذي يملك نفسه عند الغضب، فقال: ( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ومدح الله تعالى الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ومن كظم غيظه وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور ما شاء) وقد جاء في الحديث: ( إن الغضب من الشيطان) ولهذا يخرج به الإنسان من اعتدال حاله، ويتكلم بالباطل، ويتكلم بالمذموم، وينوي الحقد والبغضاء ، وغير ذلك من القبائح المحرمة، كل ذلك من الغضب أعاذنا الله منه.
وقد جاء في حديث سليمان بن صرد (إن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تذهب الغضب) وذلك أن الشيطان هو الذي يزين الغضب، وكل من حرص على ما لا تحمد عاقبته؛ فإن الشيطان يغويه ويبعده من رضى الله عز وجل؛ فالاستعاذة بالله منه من أقوى السلاح على دفع كيده.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث السابع عشر
عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ. فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيْحَتَهُ) رواه مسلم
(القِتلة) بكسر القاف : وهي الهيئة والحالة، وال(الذِبحة) بكسر الذال ويضم، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث (فأحسنوا الذبح) بغير هاء وهو بالفتح: مصدر ، وبالهاء والكسر : الهيئة والحالة.
وقولهوليُحِدَّ أحدكم شفرته) وهو بضم الياء من حدَّ، يقال: أحد السكين وحدَّها واستحدَّها.
قوله: ( فأحسنوا القِتلة) عام في القتل من الذبائح، والقتل قصاصا أو في حد ونحو ذلك.
وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد كثيرة ، ومعنى إحسان القتل، أن يجتهد في ذلك ولا يقصد التعذيب، وإحسان الذّبح في البهائم، أن يرفق بالبهيمة، ولا يصرعها بغتة، ولا يجرها من موضع إلى موضع، وأن يوجهها إلى القبلة ويسمي، ويقطع الحلقوم والودجين، ويتركها إلى أن تبرد، والاعتراف لله بالمنة والشكر على نعمه؛ فإنه سبحانه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرَّمه علينا.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الثامن عشر
عَنْ أَبِيْ ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذِ بِنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وفي بعض النسخ: حسنٌ صحيح.
مناقب أبي ذر كثيرة، أسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وأمره أن يلحق بقومه، فلما رأى حرصه على المقام معه بمكة، وعلم أنه لا يقدر على ذلك قال له صلى الله عليه وسلم: ( اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها) وهذا موافق لقوله تعالى: ( إن الحسنت يذهبن السيئات)[هود:114]
وقوله: ( وخالق الناس بخلق حسن) معناه: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، واعلم أن ( أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)
وحسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار المؤمنين: لا يجزون بالسيئة السيئة، بل ويعفون ويصفحون ويحسنون مع الإساءة إليهم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث التاسع عشر
عَنْ أَبِي عَبَّاسٍ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النبي ﷺ يَومَاً فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ إِنّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللهَ يَحفَظك، احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ، إِذَاَ سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَاَ اسْتَعَنتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك، وإِن اِجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضروك إلا بشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفعَت الأَقْلامُ، وَجَفّتِ الصُّحُفُ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح - وفي رواية - غير الترمذي: (اِحفظِ اللهَ تَجٍدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْكَ في الشّدةِ، وَاعْلَم أن مَا أَخطأكَ لَمْ يَكُن لِيُصيبكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُن لِيُخطِئكَ، وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَربِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً)
مناقب عبدالله بن عباس رضي الله عنه أكثر من أن تحصر، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ودعا له بأن (يؤتى الحكمة) مرتين، وهو بحر هذه الأمة وحبرها: وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلا للوصية مع صغره، فقال له ( احفظ الله يحفظك) ومعناه: كن مطيعا لربك، مؤتمرا بأوامره، منتهيا عن نواهيه.
وقوله: ( احفظ الله تجده تجاهك) أي اعمل له بالطاعة ولا يراك في مخالفته، فإنك تجده تجاهك في الشدائد كما جرى للثلاثة الذين أصابهم المطر فآووا إلى غار فانحدرت صخرة فأطبقت عليهم، فقالوا: انظروا ما عملتم من الأعمال الصالحة فاسألوا الله تعالى بها، فإنه ينجيكم، فذكر كل واحد منهم سابقة سبقت له مع ربه، فانحدرت عنهم الصخرة ، فخرجوا يمشون، وقصتهم مشهورة في الصحيح.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، و إذا استعنت فاستعن بالله) أرشده إلى التوكل على مولاه، وأن لا يتخذ إلها سواه، ولا يتعلق بغيره في جميع أموره ما قل منها وما كثر، وقال الله تعالى: ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه)[الطلاق:3] فبقدر ما يركن الشخص إلى غير الله تعالى بطلبه أو بقلبه أو بأمله، فقد أعرض عن ربه بما لا يضره ولا ينفعه، وكذلك الخوف من غير الله، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال : (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) وكذلك في الضر، وهذا هو الإيمان بالقدر.
والإيمان به واجب خيره وشره، وإذا تيقن المؤمن هذا ، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به، وكذلك إجابة الخليل - عليه الصلاة والسلام- جبريل عليه السلام حين سأله وهو في الهواء: ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا .
وقوله: (جفت الأقلام ورفعت الصحف) هذا تأكيد أيضا لما تقدم: أي لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل.
ثم قال : ( واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع لبعسر يسرا) فنبهه على أن الإنسان في الدنيا -لا سيما الصالحون- معرض ون للمصائب؛ لقوله تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) البقرة/ 155 – 157 وقال تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [الزمر:10]
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
عَنْ أَبيْ مَسْعُوْدٍ عُقبَة بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ البَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ (إِنَّ مِمَّا أَدرَكَ النَاسُ مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذا لَم تَستَحْيِ فاصْنَعْ مَا شِئتَ) رواه البخاري
معنى كلامه : ( من كلام النبوة الأولى) إن الحياء لم يزل ممدوحا مستحسنا مأمورا به لم ينسخ في شرائع الانبياء الأولين.
وقوله : ( فاصنع ما شئت) فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون خرج بلفظ الأمر على معنى الوعيد والتهديد، ولم يرد به الأمر، كقوله : ( اعملوا ما شئتم)[فصلت:40] فإنه وعيد، لأنه قد بين لهم ما يأتونه وما يتركون. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من باع الخمر فليشقص الخنازير) لم يكن في هذا إباحة تشقيص الخنازير.
الوجه الثاني : أن معناه : ائت كل ما لم يستحيا منه إذا ظهر فاعله، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ( الحياء من الإيمان) معناه : أنه لما كان يمنع صاحبه من الفواحش ويحمل على البر والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه من ذلك، ويحمله على الطاعات صار بمنلة الإيمان، لمساواته له في ذلك ، والله أعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الحادي والعشرون
عَنِ أَبيْ عَمْرٍو، وَقِيْلَ،أَبيْ عمْرَةَ سُفْيَانَ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُوْلَ اللهِ قُلْ لِيْ فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ؟ قَالَ: (قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ)
معنى قوله : ( قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك) أي علمني قولا جامعا لمعاني الإسلام واضحا في نفسه، بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك أعمل عليه وأتقي به، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله : ( قل آمنت بالله ثم استقم) .
هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، فإنه جمع لهذه السائل في هاتين الكلمتين معاني الإسلام والإيمان كلها ، فإنه أمره أن يجدد إيمانه بلسانه متذكرا بقلبه، وأمره أن يستقيم على أعمال الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات، إذ لا تتأتى الاستقامة مع شيء من الإعوجاج؛ فإنها ضده، وهذا كقوله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [فصلت:30] ... الآية : أي آمنوا بالله وحده ثم استقاموا على ذلك وعلى الطاعة إلى أن تفاهم الله عليها.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( استقاموا والله على طاعته ولم يراوغوا روغان الثعلب. ) ومعناه : اعتدلوا على أكثر طاعة الله اعتقادا وقولا وفعلا، وداوموا على ذلك، وهذا معنى قول أكثر المفسرين، وهي معنى الحديث إن شاء الله تعالى.
وكذلك قوله سبحانه ( فاستقم كما أمرت) [هود:112] قال ابن عباس : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كانت أشق عليه من هذه الآية. لذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( شيبتني هود وأخواتها) قال الاستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى : الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها ، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيما في حال سعيه ضاع سعيه وخاب جده، قال : وقيل الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر× لأنها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( استقيموا ولن تحصوا) وقال الواسطي: الاستقامة الخصلة التي بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن، والله اعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الثاني والعشرون
عَنْ أَبيْ عَبْدِ اللهِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النبي ﷺ فَقَالَ: (أَرَأَيتَ إِذا صَلَّيْتُ المَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضانَ، وَأَحلَلتُ الحَلاَلَ، وَحَرَّمْتُ الحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلى ذَلِكَ شَيئاً أَدخُلالجَنَّة ؟ قَالَ: نَعَمْ) رواه مسلم
هذا الرجل السائل هو عبد الرحمن بن قوقل - بقافين مفتوحتين- قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله تعالى : الزاهر أنه أراد بقوله : ( وحرمت الحرام) أمرين؛ أحدهما : أنه يعتقد كونه حراما، والثاني: أن لا يفعله بخلاف تحليل الحلال؛ فإنه يكفي فيه مجرد اعتقاده حلالا.
قال صاحب المفهم: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للسائل في هذا الحديث شيئا من التطوعات على الجملة، وهذا يدل على جواز ترك التطوعات على الجملة، لكن من تركها ولم شيئا فقد فوّت على نفسه ربحا عظيما وثوابا جسيما، ومن داوم على ترك شيء من السنن كان ذلك نقصا في دينه وقدحا في عدالته، فإذا كان تركه تهاونا ورغبة عنها كان ذلك فسقا يستحق به ذما. قال علماؤنا: لو أن أهل بلدة تواطؤوا على ترك سنة لقوتلوا عليها حتى يرجعوا، ولقد كان صدر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم يثابرون على فعل السنن والفضائل مثابرتهم على الفرائض ، ولم يكونوا يفرقون بينهما في اغتنام ثوابها.
وإنما احتاج أئمة الفقهاء إلى ذكر الفرق لما يترتب عليه من وجوب الإعادة وتركها وخوف العقاب على الترك ونفيه إن حصل ترك بوجه ما، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهه على السنن والفضائل تسهيلا وتيسيرا؛ لقرب عهده بالإسلام؛ لئلا يكون الإكثار من ذلك تنفيرا له، وعلم أنه إذا تمكن في الإسلام وشرح الله صدره رغب فيما رغب فيه غيره، أو لئلا يعتقد أن السنن والتطوعات واجبة فتركه لذلك.
وكذلك في الحديث الأخير: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فأخبره أنها خمس ، فقال: هل علي غيرها؟ قال : (لا؛ إلا التطوع) ثم سأله عن الصوم والحج والشرائع، فأجابه، ثم قال في آخر ذلك: والله ، لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال: (أفلح إن صدق) - وفي رواية ( إن تمسك بما أمر به دخل الجنة) .
وهذا يسمى بمحافظته على فرائضه إقامتها والإتيان بها في أوقاتها من غير إخلال بها - فلاحا كثير الفلاح والنجاح، ويا ليتنا وفقنا كذلك، ومن أتى بالفرائض وأتبعها النوافل كان أكثر فلاحا منه؛ وإنما شرعت لتتميم الفرائض ، فهذا السائل والذي قبله إنما تركهما النبي صلى الله عليه وسلم تسهيلا عليهما إلى أن تنشرح صدورهما بالفهم عنه، والحرصعلى تحصيل المندوبات فيسهل عليهما.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الثالث والعشرون
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الحَارِثِ بنِ عَاصِم الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : )الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيْمَانِ، والحَمْدُ للهِ تَمْلأُ الميزانَ، وسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ - أَو تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، وَالصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَو عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا(رواه مسلم.
هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقد اشتمل على مهمات من قواعد الإسلام والدين.
أما الطهور فالمراد به هنا الفعل - وهو بضم الطاء - على المختار.
واختلف في معناه ، فقيل : إن الأجر فيه ينتهي إلى نصف أجر الإيمان، وقيل المراد بالإيمان هنا الصلاة؛ قال تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم)
[ البقرة:143] والطهارة شرط في صحة الصلاة، فصارت كالشطر. ولا يلزم في الشطر أن يكون نصفا حقيقيا، وقيل غير ذلك.
وأما قوله : ( والحمدلله تملأ الميزان) فمعناه: أنها لعظم أجرها تملأ ميزان الحامد لله تعالى، وقد تظاهرت نصوص القرآن والسنة على وزن الأعمال وثقل الموازين وخفتها.
وكذلك قوله: ( وسبحان الله والحمدلله تملآن ، أو تملأ، ما بين السماء والأرض) وسبب عظم فضلها ما اشتملت عليه من التنزيه لله تعالى والافتقار إليه.
وقوله : ( تملآن أو تملأ) ضبطه بعضهم بالتاء المثناة فوق وهو صحيح، فالأول ضمير مثنى، والثاني ضمير هذه الجملة من الكلام. وقال بعضهم : يجوز (تملآن) بالتذكير والتأنيث، أما التأنيث فعلى ما تقدم، وأما التذكير فعلى إرادة النوعين من الكلام، وأما (تملأ) فيذكر على إرادة الذكر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (والصلاةُ نورٌ) فمعناه أنها تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب، كما أن النور يستضاء به. وقيل: معناه أن يكون آخرها نورا لصاحبها يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصل، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( والصدقةُ برهانٌ) فقال صاحب [التحرير] : معناه أنه يفزع إليها، كما يفزع للبراهين، كأن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت له صدقاته براهين في جواب هذا السؤال، فيقول تصدقت به. وقال غيره : معناه أن الصدقة حجة على إيمان فاعلها؛ لأن المنافق يمتنع منها؛ لكونه لا يعتقدها ، فمن تصدق استدل بصدقته على قوة إيمانه، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ( والصّبر ضياء) فمعناه: الصبر المحبوب في الشرع وهو الصبر على طاعة الله تعالى والصبر عن معصيته، والصبر أيضا على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا، والمراد أن الصبر محمود لا يزال صاحبه مستضيئا به ، مهتديا مستمرا على الصواب.
قال إبراهيم الخواص: الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة، وقيل : الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب، وقال أبو علي الدقاق رحمه الله : الصبر أن لا يعترض على المقدور، فأما إظهار البلاء على وجه الشكوى فلا ينافي الصبر؛ قال الله تعالى : ( إنّا وَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدٌ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:44] مع أنه قال: ( أَنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أرحَمُ الرّاحِمين) [الأنبياء:83] والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (والقرآن حجة لك أو عليك) فمعناه ظاهرا ، أي تنتفع به إن تلوته وعملت به، وإلا فهو حجة عليك.
وقوله: ( كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها) معناه: أن كل إنسان يسعى لنفسه فمنهم من يبيعها لله بطاعته له فيعتقها له فيعتقها من العذاب كما قال الله تعالى : ( إِنَّ اللهَ اشترى منَ المؤمنينَ أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنّة)[التوبة:111] و[منهم] من يبيعها للشيطان والهوى باتباعها فيوبقها أي يهلكها. اللهم وفقنا للعمل بطاعتك وجنبنا أن نوبق أنفسنا بمخالفتك.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الرابع والعشرون
عَنْ أَبي ذرٍّ الغِفَارْي رضي الله عنه عَن النبي ﷺ فيمَا يَرْويه عَنْ رَبِِّهِ عزَّ وجل أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِيْ إِنِّيْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً فَلا تَظَالَمُوْا، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُوْنِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فاَسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوْنِيْ أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ تُخْطِئُوْنَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعَاً فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّيْ فَتَضُرُّوْنِيْ وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِيْ فَتَنْفَعُوْنِيْ، يَا عِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فَيْ مُلْكِيْ شَيْئَاً. يَا عِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِيْ شَيْئَاً، يَا عِبَادِيْ لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوْنِيْ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِيْ إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِيْ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيْهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُوْمَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) رواه مسلم.
قوله : (إِنِّيْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً) قال بعض العلماء: معناه لا ينبغي لي، ولا يجوز عليّ؛ كما قال تعالى: ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا) فالظلم محال في حق الله تعالى. قال بعضهم في هذا الحديث: لا يسوغ لأحد أن يسأل الله تعالى أن يحكم له على خصمه إلا بالحق ، لقوله تعالى : ( إني حرمت الظلم على نفسي) فهو سبحانه لا يظلم عباده، فكيف يظن ظانٌّ أنه يظلم عباده لغيره.
وكذلك قال : (فلا تظالموا ) المعنى : المظلوم يقتص له من الظالم، وحذفت إحدى التائين تخفيفا، أصله ( فلا تتظالموا) .
وقوله : ( كلكم ضال إلا من هديته .... وكلكم عار إلا من كسوته ... وكلكم جائع إلا من أطعمته) تبيه على فقرنا وعجزنا عن جلب منافعنا ودفع مضارنا إلا أن يعيننا الله سبحانه على ذلك، وهو يرجع إلى معنى ( لا حول ولا قوة إلا الله) وليعلم العبد أنه إذا رأى آثار هذه النعمة عليه أن ذلك من عند الله ، ويتعين عليه شكر الله تعالى وكلما ازداد من ذلك يزيد في الحمد والشكر لله تعالى.
وقوله ( فاستهدوني أهدكم ) أي اطلبوا مني الهداية أهدكم، والجملة في ذلك أن يعلم العبد أنه طلب الهداية من مولاه فهداه، ولو هداه قبل أن يسألأه لم يبعد أن يقول: إنما أوتيته على علم عندي، وكذلك ( كلكم جائع) إلى آخره، يعني أنه خالق الخلق كلهم ذوي فقر إلى الطعام، فكل طاعم كان جائعا حتى يطعمه الله بسوق الرزق إليه، وتصحيح الالات التي هيأها له، فلا يظن ذو الثروة أن الرزق في يده، وقد رفعه إلى فيه؛ أطعمه إياه أحد غير الله تعالى؟! وفيه أيضا أدب للفقراء؛ كأنه قال: لا تطلبوا الطعام من غيري، فإن هؤلاء الذين تطلبون منهم أنا الذي أطعمهم ( فاستطعموني اطعمكم) وكذلك ما بعده.
وقوله : ( إنكم تخطؤون بالليل والنهار) في هذا الكلام من التوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن، وكذلك إن الله خلق الليل ليطاع فيه ويعبد بالإخلاص حيث تسلم الأعمال فيه غالبا من الرياء والنفاق، أفلا يستحي المؤمن أن لا ينفق الليل حيث تسلم الأعمال فيه غالبا من الرياء والنفاق، أفلا المؤمن أن لا ينفق الليل والنهار في [الطاعة]؛ فإنه خلق مشهودا من الناس، فينبغي لكل فطن أن يطيع الله فيه أيضا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالفة، وكيف يحسن بالمؤمن أن يخطئ سرا أو جهرا؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك ( وأنا أغفر الذنوب جميعا) فذكر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف، وأكدها بقوله : (جميعا) وإنما قال ذلك قبل أمره إيانا بالاستغفار ؛ لئلا يقنط أحد من رحمة الله لعظم ذنب ارتكبه.
قوله: ( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم) ... إلخ: فيه ما يدل على أن تقوى المتقين رحمة لهم، وأنها لا تزيد في ملكه شيئا.
وأما قوله : ( لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ) ... إلى آخره، ففيه تنبيه الخلق على أن يعظموا المسألة ويوسعوا الطلب، ولا يقتصر سائل، ولا يختصر طالب، فإن ما عند الله لا ينقص، وخزائنه لا تنفذ، فلا يظن ظان أن ما عند الله يغيضه الإنفاق، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر ( يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه) وسرُّ ذلك أن قدرته صالحة للإيجاد دائما، لا يجوز عليها عجز ولا قصور، والممكنات لا تنحصر ولا تتناهى.
وقوله : ( إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) هذا مثل قصد به التقريب إلى الأفهام بما نشاهده. والمعنى: أن ذلك لا ينقص مما عنده شيئا. والمخيط بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الياء - هو الإبرة.
وقوله: ( إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله) يعني لا يسند طاعته وعبادته من عمله لنفسه، بل يسندها إلى التوفيق ويحمد الله على ذلك.
وقوله : ( ومن وجد غير ذلك) لم يقل من وجد غير الأفضل ( فلا يلومنّ إلا نفسه) ، أكد ذلك بالنون تحذيرا أن يخطر في قلب عامل أن اللوم تستحقه غير نفسه، والله أعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث الخامس والعشرون
عَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: أَنَّ أُنَاسَاً مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالوا للنَّبي ﷺ يَارَسُولَ الله: ذَهَبَ أَهلُ الدثورِ بِالأُجورِ، يُصَلُّوْنَ كَمَا نُصَلِّيْ، وَيَصُوْمُوْنَ كَمَا نَصُوْمُ، وَيَتَصَدَّقُوْنَ بفُضُوْلِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: (أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُوْنَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيْحَةٍ صَدَقَة.وَكُلِّ تَكْبِيْرَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَحْمَيْدَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَهْلِيْلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بالِمَعْرُوْفٍ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ وَفِيْ بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيَأْتِيْ أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُوْنُ لَهُ فِيْهَا أَجْرٌ؟ قَالَ:أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فَيْ حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فَي الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
الدثور - بضم الدال -: جمع دَثر بفتحها ، وهو المال الكثير.
وقوله : (أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُوْنَ؟) الرواية فيه بتشديد الصاد والدال جميعا، ويجوز في اللغة تخفيف الصاد.
وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الاذكار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النية في المباحات، وإنما تصير طاعات بالنيات الصادقات.
وفيه دليل على جواز سؤال المستفتي عن بعض ما يخفى عليه من الدليل إذا علم من حال المسؤول أنه لا يكره ذلك ولم يكن فيه سوء أدب، وذكر العالم الدليل على بعض ما يخفى على السائل.
وقوله : ( وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آكد منه في التسبيح وما ذكر بعده، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية- وقد يتعين- بخلاف الأذكار التي تقع نوافل، وأجر الفرائض أكثر من أجر النفل، كما دل عليه قوله عز وجل ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ بشيء مما افترضته عليه) رواه البخاري.
قال بعض العلماء : يزيد ثواب الفرض على ثواب النفل سبعين درجة واستأنس له بحديث.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( في بٌضع أحدكم صدقة) وهو بضم الباء ويطلق على الجماع، وعلى الفرج نفسه، وكلاهما يصح إرادتهه هاهنا، وقد تقدم أن المباحات تصير بالنيات طاعات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى الإنساء قضاء وطر الزوجة ومعاشرتها بالمعروف، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه أو زوجته، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
وقولهم : ( يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر) ... إلى آخره. فيه جواز القياس، وهو مذهب العلماء ، ولم يخالف فيه إلا أهل الظاهر، وأما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذم القياس فليس المراد به القياس الذي يعهده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس هو قياس العكس، واختلف الأصوليون في العمل به، والحديث دليل لمن عمل به.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
جزاك الله عنا اختي بنت الخطاب خير الجزاء
وعدت فأنجزت
بارك الله فيك وجعل هذا العمل في ميزان حسناتك
وعدت فأنجزت
بارك الله فيك وجعل هذا العمل في ميزان حسناتك
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
أمين كتب:جزاك الله عنا اختي بنت الخطاب خير الجزاء
وعدت فأنجزت
بارك الله فيك وجعل هذا العمل في ميزان حسناتك
وجزاكم مثلما قلتم أخي
نسأل الله القبول عنا وعن آبائنا رحمهم الله
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث السادس والعشرون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : (كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلُّ يَومٍ تَطْلُعُ فِيْهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِيْنُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُ لَهُ عَلَيْهَا أَو تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيْهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيْطُ الأَذى عَنِ الطَّرِيْقِ صَدَقَةٌ) رواه البخاري ومسلم.
قوله (سُلامى) بضم السين المهملة وتخفيف اللام : وهي المفاصل والأعضاء، وقد ثبت في صحيح مسلم أنها ثلاثمئة وستون.
قال القاضي عياض: وأصله عظام الكف والأصابع والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله.
قال بعض العلماء، المراد صدقة ترهيب وترغيب لا إيجاب وإلزام.
وقوله: ( تعدل بين اثنين صدقة) أي يصلح بينهما بالعدل.
وفي حديث آخر من رواية مسلم ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان؛ فإن الصلاة عمل لجميع أعضاء الجسد فإذا صلى، فقد قام كل عضو بوظيفته، والله أعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
رد: شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد
الحديث السابع والعشرون
عن النواس بن سمعان رضي الله عنهما ، عن النبي ﷺ قال: (البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) .رواه مسلم.وعن وابصة بن معبد رضى الله عنه ، قال : أتيت رسول الله ﷺ ، فقال : (جئت تسأل عن البر و الإثم ؟) قلت : نعم ؛ قال : (استفت قلبك ؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن اليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك) .حديث حسن
قوله صلى الله عليه وسلم: (البّر حسن الخٌلق) يعني أن حسن الخلق أعظم خصال البر، كما قال ( الحج عرفة)، أما البر فهو الذي يبر فاعله ويلحقه بالأبرار وهم المطيعون لله عز وجل.
والمراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرفق في المحاولة، والعدل في الأحكام، والبذل في الإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى؛ فقال في سورة الأنفال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ) [الأنفال 2-4]
وقال تعالى : ( ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلْعَٰبِدُونَ ٱلْحَٰمِدُونَ) إلى قوله تعالى : (وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ)[التوبة:112] وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون)[المؤمنون:1] إلى قوله تعالى : (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) [المؤمنون:10] وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً)[الفرقان:63] إلى آخر السورة، فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميعها علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض، فليشتغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده.
ولا يظن ظان أن حسن الخلق عبارة عن لين الجانب، وترك الفواحش والمعاصي فقط، وأن من فعل ذلك فقد هذب خلقه، بل حسن الخلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين، والتخلق بأخلاقهم.
ومن حسن الخلق احتمال الأذى؛ فقد ورد في الصحيحين: أن أعرابيا جذب برد النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى أثرت حاشيته في عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، وقال :يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك وأمر له بعطاء.
وقوله : (والإثم ما حاكَ في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) يعني: هو الشئ الذي يورث نفرة في القلب، وهذا أصل يتميك به لمعرفة الإثم من البر: إن ّ الإثم ما يحيك في الصدر ويكره صاحبه أن يطلع عليه الناس، والمراد بالناس -والله أعلم- أماثلهم ووجوههم، لا غوغاؤهم، فهذا هو الإثم فيتركه، والله أعلم.
بنت الخطاب- المشرفة العامة
- عدد المساهمات : 1324
تاريخ التسجيل : 02/01/2017
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى